خامسا:المقالات
النقيض
أظنّ أنني أضع يدي على عيب من أعظم عيوب التفكير والعمل لدى المسلمين, وإن لم أكن قادراً على تشخيصه بدقة, ومعرفة أسبابه ، يكفي أن أدوّنها ملاحظة غير عابرة ولا عاجلة , على طرائقنا في العيش
عقلي المؤمن
أشكر ربي أجزل الشكر وأوفاه على نعمة العقل ونعمة الإيمان . بالعقل يصبح المرء مؤمناً ، إذ غير العاقل لا يُخَاطب بالإيمان أصلاً ، فالعقل يدلّ على الله قبل النقل ،
هل نحن شعوب مرائية ؟!
قبل بضعة أشهر ؛ زارني وفد من محطة تلفزيونية تتبع الاتحاد الأوربي ، وسألوني عن أشياء كثيرة حول الإسلام والعروبة والوطن ..
تغيرت علينا !
قابلت إنساناً ذات مساء خُيّل إليّ أنّي أعرفه ، فعانقته بحرارة ، وسألته عن الحال ، وعاجلته قائلاً : ما هذا التغيّر الذي طرأ عليك ؟ أين كنت ؟ وكيف صرت ؟ ..
دعوة للتصافي
لَمْ أشأْ أن أجعل عنوان مقالتي هذه " دعوة للمصالحة " خشية أن يُفهم من هذا إلغاء جوانب الاختلاف ، لأنه قد يوجد ما يدعو للاختلاف في أمور الشريعة أو في مصالح الدنيا ، فالاختلاف سنة إلهية ولا حيلة
تأليل الإنسان
لعله سبك جديد لمفهوم تحويل الإنسان إلى آلة . أردت أن أخرج ذات صباح؛ فوجدتني أعبئ جيوبي بجوال ذات اليمين وآخر ذات الشمال ، وأتفقّد
ابن الفجاءة
ليس لي كبير فضل في حفظ قصيدة " قطري بن الفجاءة " الخارجي الذي يقول : أَقـولُ لها، وقَدْ طارَتْ شعَاعاً** مِن الأَبْطال: وَيْحكِ لاتراعي
__________________________________________________ _____________________
بأسلوب أدبيٍ رفيع
وعبارات أخاذةٍ
يروي لنا فضيلة الشيخ د.سلمان العودة
ليلته الأولى في السجن وكيف مرت عليه تلك الليلة
الليلة الأولى
فضيلة الشيخ / سلمان بن فهد العودة
الجمعة 09 ربيع الأول 1430الموافق 06 مارس 2009
عندما نستطيع الالتفات للوراء، دون حنين، ودون ألم، ودون حقد أيضاً، وأن نستخدم القلم لتنظيف الجرح فهذا شيء جميل.
يقول كينيث أيوكنيكلوس: " أن تعلم شيئاً عن الماضي فهذا أمر، أما أن تظل غارقاً فيه فهذا أمر آخر تماماً "
لهذا نحن نكتب ونرسم ونتحدث، لا لنصنع الشفقة عند الآخرين حيال معاناتنا، ولا لنعبّر عن مشاعر الكراهية التي تترفّع عنها النفوس الطيبة؛ بل لنعيش الحياة ذاتها بتجربة جديدة، وليشاركنا الآخرون لذة عيشها حيث أصبح ذلك ممكناً.
أيها الساهر تغفو تذكر العهد وتصحو
فإذا ما التام جرح جد بالتذكار جرح
فتعلّم كيف تنسى وتعلّم كيف تمحو
إنها الصورة المتحركة, يعيدها الشريط مرة ومرة أمام النظّارة، بعد أن يتحول الألم إلى متعة، لأنه أصبح تاريخاً يروى، يتدثر أحياناً بردائه الشفاف.
حين تنغرز سيارتك في الرمل ذات ظهيرة, ويأخذك العطش والخوف تكون قلقاً ومرعوباً، وبعد سنوات تسرد تلك القصة للأصدقاء والأبناء, وتكون محبوراً وضاحكاً، فلم يبق من القصة سوى وجهها الجميل ونهايتها السعيدة، وتم نسيان مخاوفها وآلامها، لقد تكشّف الزمن الذي كان مستقبلاً عن فرص ذهبية، وأحلام رائعة، حين تحول إلى واقع.
إن العمل الذي لا مخاطر فيه ولا كدر لن يحوي شيئاً تحكيه أو تتندر به.
الحياة تعلمنا التفاؤل، وتذكرنا بأن الخروج من سطوة الحاضر الضيق يكون بنظرة إلى القادم الأوسع (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح الآيتان6،5).
تفتحت بوابة الفكر اللينة على بوابة الفولاذ العريضة المتربعة على الجدار الأسمنتي الذي تضاهيه سماكة وتفوقه تماسكاً، عندما تدفعها تتحرك ببطء حتى تشعر بثقلها ووطأتها عليك، ويبقى قفلها المركزي محتفظاً بسريته ومركزيته وغموضه الذي يرتبط في داخلك بأشياء كثيرة تتصل بسلوكك وتفاعلك وإيجابيتك، حين تدلف داخل خزانتها ذات الأمتار الثلاثة طولاً، والمترين عرضاً، ترفع رأسك فتجد في الزاوية العليا منها عين الرقيب الذي لا يطرف ولا ينام، هكذا هي الآلة.
فوق البوابة شاشة تلفزيونية كأنما بُنيت مع الجدار، فهي جزء منه بنفس مستواه، يعلو الشاشة بانحراف يسير فتحات صغيرة يهب منها نسيم عليل يُبرّد صيفاً ويُسخّن شتاءً ، في السقف كوة إلى العالم, يتسلل منها بصيص النور، بصيص الأمل ، قدر ضيئل بقدر ما تسمح به الضآلة والضيق.
تنسل خيوط الشمس إلى الكائن القابع في تلك الحجيرة، إلى اليمين .. تجد فتحة الطعام المتصلة برف أسمنتي، أمامه كرسي حديدي مثبت بإحكام، يليه عارض أسمنتي قصير هو حاجز لدورة المياه، والمروش.
يمتد في تلك الأرضية المحجرة لَيٌّ صغير يمتد إلى أعلى، وبجواره مربع حديدي قد تعييك الحيلة في معرفة العلاقة بينهما حتى تطأه برجلك فينبثق منه الماء، وينساب الصوت المنتمي إلى الحياة المعبر عن أصالتها وعمقها (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(الأنبياء: من الآية30)..
على الجدار مرحاض معلق من الاستيل الخالص، هنا تتحول الأشياء العادية إلى معانٍ عميقة ودلالات يتفاعل معها الساكن بقوة، تعيش هنا بمفردك، قد تجوب تلك الأمتار وتذرعها لتحافظ على قدر من الحياة للجسم بعد أن كنت موكلاً بفضاء الله تذرعه فقد وضع صاحبنا العصا عن عاتقه أو وُضِعَ عنه.
تسمع صدى خطواتك حينذاك وترى الأجزاء الصغيرة في كل بقعة وزاوية وفي كل مرة تراها بعين غير عين الأمس وتقرأ رموزها، وليس غريباً أن تصاب بدوار خفيف جرّاء خط سيرك فتضطر لعكسه لتتوازن المعادلة لديك، وفي أثناء ذلك حتماً تترنم بآيات من الذكر، أو أبيات من الشعر، اعتصرها عقلك من وحي اللحظة أو تدفقت مع شلال الحدث ، وقد تسرح في خيال يراوغك أو يطاردك حيث لا حواجز ولا أسوار، فكلما ضاق القيد اتسع أفق العقل.
قد يمر عليك وقت طويل .. تتحدث فتسمع همساً تصغي له فتجده صدى صوتك أو ترددات نفسك لتقف شاكراً متفكراً لنعمة طالما غفلت عنها كثيراً ، تتذكر فلا يشغلك عن ذكراك سوى ذكرى أخرى تزاحمها.
كان الدخول الأول لذاك المنزل الجديد الساعة الحادية عشرة ضحى، لم يكن حزيناً كما يتوقع فقد كان طبعه التفاؤل، ولا يحتاج عقله لجلسة تهيئة، لذلك كان فعله يسبق شعوره، وقد يكون ذلك لعدم تصوره الموقف بشكل جيد أيضاً ..
صلاة الظهر ركعتان لمسافر مثله، (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (المؤمنون:29)، (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) (الإسراء:80)..
إغفاءة القيلولة لابد منها، لا يفصل جسده الأسمر النحيل عن سريره الأسمنتي في زاوية الغرفة سوى قطعة إسفنج، ووسادة خفيفة، وكعادته لا ينام إلا ملتحفاً مغطياً عينيه، والنوم يتسلل بسرعة حتى لا يكاد يكمل أوراده، (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ)(الأنفال: من الآية11) هو الآن يتعجب إذ يرى هذا الطبع بعدُ في صبيته الصغار!
أحياناً تحتاج إلى لحظات من الظلام تمننحك الهدوء, ولكنك لا تعثر عليها!
حين رأى الصحن المعد للطعام تذكر المستشفى، مربع للرز، وآخر للسلطة، وثالث للمرق، واللحم الذي قد يكون ضأناً أو سمكاً أو دجاجاً، هنا لا كلام ولا حديث ولا أنيس، عليه أن يفتح فمه لالتهام الطعام المحمّل بالذكريات ، هو جائع لم يطعم شيئاً منذ الصباح ..
إنه يتناول غداءه للمرة الأولى منفرداً ، كان لوقت الظهيرة عادة سُلبت منه، وطعم أُزيل عنه، حين كان فرصة اجتماع الشمل بمن حوله، مع والدته، أو أسرته، أو إخوته، أو ضيوفه، أو أصدقائه، عازم أو معزوم، ولسان حاله يقول كما قال حاتم:
إِذا ما صَنَعتِ الزاد فَاِلتَمِسي لَهُ أَكيلاً فَإِنّي لَستُ آكِلَهُ وَحدي
فمن عادة العرب أن يعدو الإيثار في الطعام من أعظم المكارم:
أَما وَالَّذي لا يَعلَمُ الغَيبَ غَيرُهُ وَيُحيّ العِظامَ البيضَ وَهيَ رَميمُ
لَقَد كُنتُ أَطوي البَطنَ وَالزادُ يُشتَهى مَخافَةَ يَوماً أَن يُقالَ لَئيمُ
لم يكن يخاف أن يقال له ذلك، بيد أن انشغاله بالحديث وإسناده إليه في غير مجلس ربما كان سبباً في اكتفائه ونحوله، حتى يظن أنه خلق هكذا، ولا سبيل إلى أن يتجاوز وزنه ستة وخمسين كيلاً ، وهو ابن الثامنة والثلاثين، كما كان وزنه وهو ابن العشرين !
ومع ذلك لم يسبق (لصاحبنا) أن دخل المستشفى، فهو يتمتع بصحة جيدة تقوم على الاستقرار النفسي، والتغذية السليمة، وشيء من الرياضة.
كان أحياناً يردد قول عروة بن الورد:
أَتَهزَأُ مِنّي أَن سَمِنتَ وَأَن تَرى بِوَجهي شُحوبَ الحَقِّ وَالحَقُّ جاهِدُ
فإِنّي اِمرُؤٌ عافي إِنائِيَ شِركَةٌ وَأَنتَ اِمرُؤٌ عافي إِنائِكَ واحِدُ
أُقَسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ وَأَحسو قَراحَ الماءِ وَالماءُ بارِدُ
نعم كان يُقسّم جسمه في جسوم كثيرة، إذ يُطعم هذا ويُقدّم لهذا ، ويدس في (حافة هذا).
إنه يتصور ما مضى مع كل لقمة يرفعها إلى فمه، يمضغ فمه الطعام والخيال سارح في من كان يُجالسهم حول مائدة مضت، وإنه ليستطيب الآن ما افتقده من عبث الصغار حول الطعام.
أقبل على طعامه متحسساً شيئاً من الاغتراب .. فاستدعى الشعر ليؤانسه:
وَما أَنا بِالساعي بِفَضلِ مطيتي لِتَشرَبَ ما في الحَوضِ قَبلَ الرَكائِبِ
إِذا كُنتَ رَبّاً لِلقُلوصِ فَلا تَدَع رَفيقَكَ يَمشي خَلفَها غَيرَ راكِبِ
أَنِخها فَأَردِفهُ فَإِن حَمَلَتكُما فَذاكَ وَإِن كانَ العِقابُ فَعاقِبِ!
(العقاب: هو أن يركب هذا تارة، ثم ينزل ويركب الآخر، وهكذا).
أذان العصر يبث على الغرف بصوت ابن ماجد، الصوت الذي يألفه ويحبه، وكيف لا يحبه، وهو ينادي بالفلاح؟
كم ذا أحن إلى أهلي إلى بلدي إلى صحابي وعهد الجد واللعب
إلى المساجد قد هام الفؤاد بها إلى الأذان كلحن الخلد في صبب
الله أكبر .. هل أحيا لأسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربي!
إني غريب، غريب الروح منفرد إني غريب، غريب الدار والنسب
لكنه يفقد الرغبة في سماعه كلما تقدمت به الأيام، ليصبح مرتبطاً ارتباطاً نفسياً شرطياً بالوحدة والغربة والقلق ..
آن الأوان إذاً أن يُخاطب نفسه ويُهامسها: " ما المرء إلا ما يُفكر فيه طوال اليوم ".
ولكن اجتياز العقبات هو الاختيار الأمثل، وفي مثل هذه الحالات يكون بالتفاؤل الذي يُحسن الصحة، ويمنح العمر الأطول، وعليه الآن أن يُنقّي روحه من الشوائب العالقة ويمنح عقله وروحه فسحة أوسع .. إنه يتعمد صرفها عن الواقع المر ويهرب إلى طرق مختلفة وقد يسترخي مغمضاً عينيه وسابحاً في الأفلاك يتفاعل مع الصورة في مخيلته، وتتعارك ألوان الطيف أمامه، يرى البرتقالي الذي يرمز إلى الفخر، والأصفر حيث يكمن التفاؤل، يُدافعها الأحمر الزاهي حيث الطاقة العالية والغضب، تتلاشى الألوان بأزرق محبب إلى الفؤاد، إنها الروحانية والهدوء، ومعها يطل التفاؤل بوجهه الجميل، فيتوارى وجه التشاؤم القبيح، وعقله المرتبك، ويهمس:
أيها المهموم مهلاً .. إن هذا لا يدوم !
سلمان بن فهد العودة
الساعة 10 مساءً